نصرة ومواساة بورما وسوريا و فلسطين و افغانستان و.. واجب شرعي
تحتِّم علينا الروابطُ الإيمانية والأخوة الإسلامية حقوقًا وواجباتٍ تجاه الدم الإسلامي الذي يُراق، والأعراضِ التي تُنتَهك، وصرخات المظلومين التي تخترق الآذانَ ولا تَعيها القلوبُ، إننا الآن - ومن قبل، وفي كل وقت - نشاهد المجازر البشرية المروِّعة؛ حيث يُحرَّق المسلمون وهم أحياء في بورما، وفي كل يوم يتساقط عشراتُ القتلى، وكذلك في سوريا يَقتل الجبَّارُ شعبَه بصورة بشعة، مستخدمًا الأسلحة الثقيلة والفتاكة مع شعب خرج ليعبِّر عن رأيه، ويرفع الظلم عن نفسه، ولكن الغطرسة المفرعنة في كل زمان تفعل كل شيء حفاظًا على مُلكها، كما يصنع الفراعين على مر العصور، وفرعون سوريا فاق كلَّ الفراعين؛ فإن فرعون مصر كان يقتل الرجالَ ويستحيي النساء، أما فرعون سوريا، فيقتل النساء والأطفال والشيوخ والشباب، ويخرب بيوتهم، ويهدم المساجد، وكل ذلك بمساعدةٍ صهيوأمريكية، وعلى مسمع ومشهد من العالم كله، ورغم ما يحدث لا نرى تحركًا إلا عن طريق اجتماعات جامعة الدول العربية، المسكِّن الأكبر للشعوب، ولا أرى جامعة الدول العربية - فيما أعلم - حلَّتْ قضيةً من قضايا الأمَّة الإسلامية والعربية؛ لأنهم يكتفون دائمًا باتخاذ قرارات على ورق، وحظُّهم في كل مجلس الشجبُ والاستنكار، الذي يفعله عامة الشعب حين يرون انتهاكًا صارخًا من الأعداء ضد الإسلام والمسلمين والمظلومين.
وأنا أتعجب عندما أرى الدنيا تقوم ولا تقعد عند مقتلِ أمريكي أو يهودي، حيث يتحرك مجلس الأمن وحقوق الإنسان وجميع الدول من أجل هذا الأمريكي وذاك اليهودي، وهذه مفارقة عجيبة جدًّا في النظر إلى آدميَّة الناس وحقوقهم، إنها نظرة العصبية المتكبرة الجبارة تجاه الشعوب الإسلامية والعربية، فأين مجلسُ الأمن وحقوق الإنسان تجاه هذه المجازر التي لم نرَها حتى في الغابات؟!
لو بحثنا عن سبب لهذا الهجوم المتوحش لوجدناه ينحصر في بُعْدِ أكثر الأمة الإسلامية عن خيريتها وتشريف الله لها، فأين أمة الخيرية؟ أمة الجسد الواحد الذي يتحرك بقلب واحد، قلب العقيدة والإيمان، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!
كما أن التشرذمَ والتفرق قطَّع جسدَ الأمة الإسلامية المتنامية الأطراف، المتكاثرة في العدد - إلى أجزاءٍ متناثرة، تُلتَهم من قِبَل الأعداء، وقد تحقَّق قول رسولها - صلى الله عليه وسلم -: ((يوشك أن تداعى عليكم الأممُ من كل أفق، كما تداعى الأَكلة إلى قصعتها))، قيل: يا رسول الله، فمن قلةٍ منا يومئذٍ؟ قال: ((لا، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، يُجعَل الوهن في قلوبكم، ويُنزع الرعب من قلوب عدوِّكم؛ لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموتَ))؛ رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما عن ثوبان - رضي الله عنه.
كل هذه الفُرقة من المسلمين والوهن والوهم الذي زرعه الأعداءُ في قلوب وعقول الناس بأنهم القوة التي لا تُقهر، وأن العربَ والمسلمين لا طاقة لهم بهؤلاء، فما علينا إلا أن نصرخ ونشجب ونعطي المسكنات لأنفسنا بأنفسنا.
إن الأمة الإسلامية عندما تركت جهاد هؤلاء وتبِعتْ أذناب البقر، وقع عليها الذلُّ، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزرعِ، وتركتم الجهادَ، سلط اللهُ عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم))؛ صحيح الجامع (حديث رقم: 423)، ولن يُرفع إلا بدفع هؤلاء المتغطرسين:﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251].
نصرة ومواساة المظلوم واجب شرعي:
علَّمَنا إسلامُنا وشريعتنا - شريعة العدل والرحمة - أن نصرة المظلوم واجبٌ شرعي، حتى لو كان هذا المظلوم كافرًا، قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6]، بل لا يجوز التباطؤُ في نصرة المظلوم؛ لأن اللهَ أمرَنا بذلك في الآية سالفة الذكر فقال: ﴿ فَأَجِرْهُ ﴾.
إذا كان هذا في حق الكافرين، فهو آكَدُ في حق المسلمين المستضعفين، يقول - تعالى -: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 75]، قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "حض على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يَسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين؛ فأوجب - تعالى - الجهادَ لإعلاء كلمته، وإظهارِ دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلَفُ النفوس.
وتخليص الأسرى واجبٌ على جماعة المسلمين، إما بالقتال وإما بالأموال، وذلك أوجب؛ لكونِها دون النفوس؛ إذ هي أهونُ منها"؛ (تفسير القرطبي 5/279).
وتاريخ المسلمين خيرُ شاهد على نصرة المظلومين ولو كانوا مخالفين لنا، فلم نسمع يوم فتح مكة أن رجلاً مسلمًا هتَك عِرْضَ امرأة، أو سرق أو هدم بيتًا، أو أفسد زرعًا، أو قَتل ظلمًا، أو فزَّع طفلاً.
ونبرهن على نصرة المظلوم بحادثةٍ سجلها التاريخ تسجيلاً عمليًّا؛ حيث دخل قتيبة بن مسلم سمرقندَ دون أن يخيِّرهم بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، فاشتكى أهلُ المدينة والكهنةُ في سمرقند إلى عمرَ بنِ عبدالعزيز، فرفع الأمر إلى القاضي ليفصل في هذا الأمر.
فاستدعى القاضي قتيبةَ وكبيرَ الكهنة:
فجاء قتيبة وجلس هو وكبير الكهنة أمام القاضي.
ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟
قال: اجتاحنا قتيبةُ بجيشه، ولم يدعُنا إلى الإسلام ويُمهلْنا حتى ننظر في أمرنا.
التفت القاضي إلى قتيبة وقال: وما تقول في هذا يا قتيبة؟
قال قتيبة: الحرب خَدعة، وهذا بلد عظيمٌ، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ولم يدخلوا الإسلام، ولم يقبلوا بالجزية.
قال القاضي: يا قتيبةُ، هل دعوتَهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟
قال قتيبة: لا، إنما باغتناهم؛ لِمَا ذكرت لك.
قال القاضي: أراك قد أقررت، وإذا أقر المدعى عليه انتهت المحاكمة، يا قتيبةُ، ما نصَرَ اللهُ هذه الأمَّةَ إلا بالدين، واجتنابِ الغدر، وإقامة العدل.
ثم قال: قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء، وأن تترك الدكاكين والدور، وألا يبقى في سمرقند أحدٌ، على أن ينذرَهم المسلمون بعد ذلك!
لم يصدِّق الكهنةُ ما شاهدوه وسمعوه، فلا شهود ولا أدلة ولم تدُمِ المحاكمة إلا دقائقَ معدودةً، وبعد ساعات قليلة سمع أهل سمرقند بانسحاب المسلمين، وما أن غربت شمس ذلك اليوم إلا والكلاب تتجول بطرق سمرقند الخالية، وصوتُ بكاء يُسمع في كل بيت على خروج تلك الأمَّة العادلة الرحيمة من بلدهم، ولم يتمالكِ الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعات أكثر، حتى خرجوا أفواجًا، وكبيرُ الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
هذه صفحة من صفحات عدل الإسلام والمسلمين ونصرة المظلوم مهما كانت عقيدته، أرأيتم جيشًا يفتح مدينة ثم يشتكي أهلُ المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج؟!
ونصرة المظلومين ليست واجبةً في حق المسلم، بل والكافر أيضًا يجب عليه نصرة ومواساة المظلومين، وقد حدث ذلك؛ حيث عقدت قريش حِلفًا في الجاهلية يدعو إلى نصرة المظلوم على الظالم، وسمَّوْه حِلْف الفضول؛ فقد رُوي أن رجلاً من زبيد قدم مكة معتمرًا ومعه تجارة فاشتراها العاص بن وائل السهمي، ولم يُعطِه حقَّه وتغيَّب، فقال الزبيدي في ذلك أبياتًا، فقام في ذلك الزبير بن عبدالمطلب ومشى إلى عبدالله بن جدعان التيمي، فاجتمعت كلمةُ بني هاشم وبني أسد وبني زهرة وبني تيم على نصرة المظلوم، وانطلقوا إلى العاص بن وائل فقالوا: والله لا نفارقك حتى تؤديَ إليه حقه، فأعطى الرجلَ حقه، فمكثوا كذلك لا يُظلَمُ أحدٌ بمكة إلا أخذوا له حقَّه.
هذه نصرة الكافرين للمظلومين، فأَولى بنا - نحن المسلمين - أن ننصرَ ونواسيَ ونرفع كل ألوان الظلم عن أي مظلوم، وكما يحتاج إخوانُنا المستضعفون من المسلمين إلى النصرة، كذلك يحتاجون إلى المواساة، وهذه المواساة لها أشكالٌ متعددة، يستطيع أيُّ إنسان أن يؤديَ من خلالها واجبَه تجاه ما يحدث لإخواننا في كل مكان، وخصوصًا على أرض بورما وسوريا، يقول ابن القيم: "المواساة للمؤمن أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجُّع لهم، على قدر الإيمان تكون هذه المواساةُ؛ فكلما ضعُف الإيمان ضعُفت المواساة، وكلما قوي قويت، وكان رسول الله أعظمَ الناس مواساةً لأصحابه، ودخلوا على بِشْر الحافي في يومٍ شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض، فقالوا، ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرت الفقراءَ وبرْدَهم، وليس لي ما أواسيهم به، فأحببتُ أن أواسيَهم في بردهم"؛ (الفوائد 1/171).
لا تخذُلِ المظلومين المستضعفين فيخذلك الله:
إن التخاذلَ عن نصرة المظلوم جريمةٌ تستوجب عقاب الله للخاذل في الدنيا قبل الآخرة؛ فقد روي: ((ما من امرئٍ يخذل مسلمًا في موطن يُنتقَص فيه من عِرضه، ويُنتَهك فيه من حُرمته، إلا خذله الله في موطنٍ يحبُّ فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن يُنتقص فيه من عِرضه، ويُنتَهك فيه من حرمته، إلا نصره اللهُ في موطن يحب فيه نصرته))؛ (صحيح الجامع، حديث رقم: 5690).
ولأجل ذلك جاء رجل من أقصى المدينة يسعى لنصرة مظلوم: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20].
وأسرعت نملة خوفًا وإشفاقًا على إخوانها وأخواتها أن يصيبَهم الأذى، فلم تكن أنانيَّةً تريد الأمان لنفسها وترى الخطر يحيط بإخوانها، لم تَرْضَ أن تكون هي وحدها الناجيةَ، بل أسرعت وقالت:﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18].
وأنا أرى أن هذه النملة بأمَّة؛ حيث كانت القائدةَ والمعلِّمة للنمل في العالم، تعلِّمه رُوحَ الأخوة والتعاون والتحرك السريع لإغاثة الملهوف والمكروب؛ فأين أكثر من مليار مسلم من هذه الرُّوح، وإخوانهم يحتاجون إلى نصرتهم في بورما وسوريا وفلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير، وفي كل بقاع الأرض؟
كل تأخير في نصرة ومواساة هؤلاء يسبِّب أشلاءً ودماءً وانتهاكًا للأعراض، وتشريدًا للأطفال، وإذلالاً للشيوخ.
وسوف نُسأل جميعًا بين يدي الله:
بأي ذنب قُتل هؤلاء؟ فماذا نحن قائلون؟!
[/size]!