المحاولات المستميتة التي يبذلها نظام الحكم هذه الأيام لإنقاذ الوزير السابق محمد إبراهيم سليمان من مستنقع الاتهامات بأبشع ألوان الفساد بلغت ذروتها الأسبوع الماضي بنشر الصحف الحكومية تصريحات للوزير المتهم أفردت لها هذه الصحف المساحات الكبيرة واختارت لها العناوين الضخمة التي تؤكد براءته؟! ثم دخلت الساحة قناة فضائية سعودية «أوربت» فاستضافت الوزير المتهم ليباهي - ليس فقط ببراءته - ولكن بإنجازات باهرة أنقذت مصر من أزماتها المالية؟!
أتوقف أولا أمام هذه المحاولة للإنقاذ «بالإعلام» لأسجل أن ما نشرته الصحف الحكومية وبثته القناة السعودية يمثل سقوطاً مهنياً بامتياز لهذه الصحف وتلك القناة علي هذا النحو.
1- السماح لمتهم مازال يدلي بأقواله أمام النيابة العامة بأن يقوم بتفنيد الاتهامات الموجهة إليه في ساحة التحقيق القضائي في الصحف وعلي شاشات التليفزيون يعتبر بكل المقاييس المهنية تدخلاً سافراً للتأثير في مجري التحقيقات.
2- تحتم التقاليد المهنية في حالة عرض «قضية ما» أن تتم مناقشة القضية بحضور الأطراف التي تمثل وجهات النظر المختلفة ليواجه كل طرف الطرف الآخر بما لديه من حجج وبراهين، وفي حالة الوزير المتهم يوجد العشرات من أعضاء مجلس الشعب الذين شاركوا في تقديم مستندات تتعلق بالقضايا المتهم فيها الوزير السابق، وتحتم القواعد المهنية في هذه الحالة استضافة الأطراف الممثلين لمختلف وجهات النظر.
هذا السقوط المهني الفج لا يفسره إلا أحد أمرين صدور تعليمات من سلطات عليا إلي هذه الأجهزة الإعلامية، أو تحقيق مصالح شخصية لمن نشر وأذاع.
وإذا كان هذا السقوط المهني في حد ذاته خطيئة فادحة فإن ما ترتب عليه من آثار تجاوز دائرة الخطأ والخطيئة إلي دائرة الكارثة الكبري التي تهدد بإلحاق صدع خطير في مصداقية مؤسسات رسمية بالغة الأهمية وهي الرقابة الإدارية والنيابة العامة والإعلام الرسمي والخاص.
أولا: كيف نطلب من المواطنين الذين قرأوا لعدة أشهر أخبار الاتهامات التي قدمت وثائقها «الرقابة الإدارية» ثم قرأوا وشاهدوا تصريحات الوزير المتهم وهو يكذب هذه الاتهامات؟! كيف نطلب من هذه الجماهير أن تمنح ثقتها لهذا الجهاز الرقابي الرسمي؟! وهل نستطيع أن نمنع المنحرفين وهم يروجون الأقاويل التي تتهم هذا الجهاز الرسمي بالتزوير والتلفيق؟! لقد ساهمت هذه الحملة الصحفية في دعم الهجوم الشرس التي تتعرض له «الرقابة الإدارية» من مافيا الفساد التي تطاردها الرقابة، فهل يستريح نظام الحكم إذا أصيبت مصداقية أحد أهم الأجهزة الرقابية بالدولة بشروخ عميقة؟!
ثانيا: السماح للوزير المتهم بلقاء من أشركتهم النيابة في التهم من رجال أعمال وقيادات تنفيذية سابقة ونشر أخبار هذه اللقاءات والتلميحات بل التصريحات أحيانا التي تتحدث عن أن هذه اللقاءات يتم خلالها «ترتيب الأوراق» لإنقاذ الوزير وشركاه، ثم تأتي الحملة الصحفية لتكرس هذا السلوك الذي لا يمكن بحال أن نمنع الجماهير من تفسيره علي أنه محاولة لخلق أوضاع وترتيب مستندات تضع جهات التحقيق في النيابة العامة في مأزق لا تستطيع معه الوصول إلي «الحقيقة» ويفلت المتهمون لأنهم تمكنوا من عرقلة جهود النيابة العامة للوصول إلي الحقيقة.. وأيضا لصالح من يسمح النظام بأن توضع جهات التحقيق في مثل هذا المأزق؟
ثالثا: يتعرض الإعلام الرسمي وبعض القنوات التليفزيونية الخاصة لاتهامات مشروعة بفقدان المصداقية وعدم الالتزام بالمعايير المهنية فهل من مصلحة النظام أن يضيف إلي هذه الاتهامات وقائع عملية تؤكد هذه الاتهامات؟!
ويتساءل المواطنون كيف لنظام حكم يعاني آلاف المشكلات كل يوم يضيف إلي كل معاناته أدلة مادية واضحة ودامغة علي أنه يبذل جهودا جبارة لحماية متهم قدمته إلي جهة التحقيق أجهزة رقابية رسمية؟! الأمر المؤسف أن نظام الحكم بهذا التصرف الشاذ سمح بأن تقتنع قطاعات كبيرة من الجماهير بتفسير يتداوله المواطنون تعقيبا علي ما يراه من تداعيات غريبة وشاذة في قضية الوزير المتهم.. هذا التفسير يقول إن الوزير المتهم يهدد بإفشاء أسرار تدين شخصيات مهمة في مواقع بالغة الحساسية شاركته في كل ما اتهم به؟! وإن هذه الشخصيات تحركت لإنقاذه حماية لنفسها ومنعا من تفجير الوزير المتهم لأسرار خطيرة إذ ترك ليلقي مصيره.