في الآونة الأخيرة تعرض الإخوان المسلمون لحملة اعتقالات كبيرة من حيث حجم ووزن الأشخاص الذين تم اعتقالهم، إذ شملت الاعتقالات ثلاثة من أعضاء مكتب الإرشاد البارزين لا سيما الدكتور محمود عزت - الأمين العام للجماعة سابقا - والرجل القوي في الجماعة، والدكتور عصام العريان - المتحدث الإعلامي البارز في الجماعة -، وبينما كان الإخوان المسلمون يلملمون أطرافهم ويضمدون جراحهم من تأثير هذه الحملة أعلن بعض رموز جماعة الإخوان المسلمين في صبر وجلد - اعتاده الشارع السياسي منهم - أنهم لا يستبعدون تحويل عدد من رموزهم المعتقلين إلي محاكمة عسكرية، كما أعلنوا أن هذا لن يفت في عضدهم ولن يوقف شيئًا من نشاطهم، ولم يكد الإخوان المسلمون يلتقطون أنفاسهم من جراء هذه الاعتقالات حتي داهمتهم أجهزة الأمن باعتقالات ثانية ثم ثالثة ثم تسارعت وتيرة الاعتقالات ضد أعضاء وقادة جماعة الإخوان المسلمين في عدد كبير من محافظات مصر، فقوات الأمن استهدفت زعماء الجماعة في القاهرة والجيزة، منذ شهر فبراير الماضي وحتي اليوم، وكذلك زعماء المحافظات الأخري، مثل الإسكندرية، وأسيوط، والشرقية، والغربية، واحتجزت رموزا إخوانية بارزة ومهمة، وكان دائمًا هناك كثير من الزخم الذي صاحب أحداث الاعتقالات، فمن تأييد الإخوان المسلمين للبرادعي إلي مظاهراتهم احتجاجًا علي التهويد الجاري حاليًا لمدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصي الأسير، لكن علي كل حال كانت الاعتقالات متسارعة ومنتظمة بشكل دائم في الشهور الأخيرة، ورغم أن اعتقالات الأجهزة الأمنية للإخوان المسلمين صارت شيئا معتادا ومنتظما ومستمرا منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كما أنها اتسعت جدا منذ عام 2005، لكن لاشك أن الحملة الأخيرة اتسمت بقدر جديد من الفجاجة والقسوة واللامعقولية، فعلي سبيل المثال لا الحصر فإن أجهزة الأمن اجتاحت الجمعة الماضية ست محافظات، وألقت القبض علي العديد من أعضاء الجماعة، مضاعفة بذلك أعداد الذين احتجزتهم في الشهور الماضية فقط، كي يبلغ عدد معتقلي الإخوان المسلمين في السجون المصرية حتي الآن نحو 350 معتقلاً، ومن هنا جاءت تعليقات الكثير من المراقبين التي ترددت بين الاستهجان والتعجب تارة وبين اعتبار هذه الاعتقالات بلا جدوي ولا معني تارة أخري.
وقد انتقدت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في تقرير لمراسلها في القاهرة حملة الاعتقالات المستمرة التي شنتها الحكومة المصرية ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، واعتبرت أن هذه الاعتقالات بدأت مبكرة هذا العام، لأن الانتخابات البرلمانية لن تجري قبل عدة أشهر.
ورأي الكاتب الصحفي سلامة أحمد سلامة أن حملة الاعتقالات هذه هي نفس الحملة المستمرة التي تحاول منع الجماعة من الانخراط في الساحة السياسية قبل الانتخابات لمنعهم من ترشيح أعضائهم بكثافة في الانتخابات القادمة.
كما تعجب الدكتور ضياء رشوان - الخبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية - من هذه الاعتقالات، واعتبر أنه أمر نادر أن تحدث حملة اعتقالات كهذه بعد تعيين المرشد العام الجديد مباشرة، والغرض منها علي ما يبدو، هو تعطيل القيادة الجديدة قبل أن يتسني لها الوقت حتي لتتنفس.
وأيا كانت الأهداف الحكومية من هذه الحملة فإن هناك آلافا من الأشخاص من مختلف الأنحاء في طول البلاد وعرضها صوتوا للإخوان المسلمين وساعدوهم في الانتخابات، وهناك آلاف آخرون من المؤيدين والمتعاطفين، ولا شك أن عملية التأييد والتعاطف هذه مع جماعة الإخوان المسلمين مستمرة ومن الصعب جدا أن تتوقف الآن بسبب هذه الاعتقالات.
وفي سياق متصل أثارت الاعتقالات المكثفة التي تعرض لها قادة وأعضاء الإخوان المسلمين في الشهور والأيام الأخيرة العديد من التعليقات وردود الأفعال، فمن قائل إنها هجمة حكومية تستبق معركة الانتخابات البرلمانية القادمة والتي لم يتبق عليها إلا عدة أشهر، ومن قائل إنها رسالة تحذير شديدة اللهجة ترسلها الحكومة عبر أجهزتها الأمنية الباطشة لتوقف الاندفاع الاخواني في اتجاه مساندة الدكتور محمد البرادعي في مساعيه لتعديل الدستور وتغيير وجه الحياة السياسية المصرية، وأيًا كانت التحليلات والتعليقات فإن جماعة الإخوان المسلمين نفسها لم تسلم من الانتقادات في الفترة الأخيرة سواء علي مستوي موقفهم ورد فعلهم علي هذه الاعتقالات، أو علي مستوي موقفهم السياسي بصفة عامة في خضم الأحداث السياسية المهمة التي تشهدها الساحة السياسية المصرية حكومة ومعارضة علي حد سواء، الكثيرون اعتبروا موقف الإخوان من هذه الاعتقالات سلبيا.. هذا الموقف الذي اكتفي بتنظيم مجموعة من محامي جماعة الإخوان ليشكلوا هيئة الدفاع عن الإخوان المسلمين المعتقلين، بجانب تسهيل إمداد معتقليهم بمستلزمات المعيشة في السجن من الطعام والملابس والبطاطين، هذا الموقف الذي يعد هزيلاً جدًا إذا تمت مقارنته بموقف أنصار الدكتور أيمن نور عندما كان مسجونًا، فعلي سبيل المثال كثيرًا ما قام أنصار الدكتور أيمن نور بمظاهرات تأييد له واحتجاج علي حبسه في مناسبات كثيرة وعديدة تزامن كثير منها مع عرض الدكتور أيمن علي النيابة أو الطب الشرعي ونحو ذلك، هذا في الوقت الذي لا يمكن فيه مقارنة أنصار الدكتور نور بأنصار الإخوان المسلمين لا في العدد ولا في الانضباط التنظيمي والقدرات علي التعبئة ونحو ذلك، فهل تخاذلت جماعة الاخوان المسلمون عن مناصرة أعضائها الذين ضحوا من أجلها واعتقلوا بسببها؟ وهذا الموقف الذي اعتبره العديدون سلبيا أو علي الأقل غير مناسب وغير كاف هل يؤثر في الانضباط التنظيمي لأعضاء الإخوان المسلمين أو علي الأقل هل يؤثر في معنوياتهم؟ وما وزن ذلك كله وتأثيره في معادلة الصراع السياسي علي الساحة السياسية المصرية؟ هل تُضعف هذه الاعتقالات وتلك الحملات الأمنية المكثفة جماعة الإخوان المسلمين أو علي الأقل هل تدفع الكثير من أنصارها إلي الانفضاض عنها؟ أم هل يؤدي البطش الأمني إلي ارتعاش اليد أو الأيدي التي تمسك بزمام الأمور داخل جماعة الإخوان المسلمين فتكف عن التنافس السياسي مع الحزب الحاكم أو الأقل تخفف من حدة وضراوة هذا التنافس؟
أسئلة كثيرة لا مناص من الإجابة عنها في ظل الحراك السياسي الجديد الذي طرأ علي الشارع السياسي المصري الآن مع دخول الدكتور محمد البرادعي بقوة حلبة الصراع السياسي المصري وقلبه العديد من معادلات هذا الصراع التي استمرت راسخة منذ عقود.
بداية لابد من التذكير بتصريحات قادة ورموز الإخوان المسلمين التي أكدت استمرار الإخوان المسلمين في ممارسة السياسة من خلال معارضة النظام الحاكم مثل قول د.محمد البلتاجي «نحن ليس لدينا طريق آخر سوي النضال السياسي والدستوري، فنحن نريد الإصلاح السياسي، لذا لا أستطيع أن أتخيل عدم المشاركة في الحياة السياسية»، وكذلك التصريحات التي أشارت إلي ما يشبه ترحيب الجماعة بالاعتقالات مثل تصريح المهندس سعد الحسيني - عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين - الذي اعتبر فيه أن هذه الاعتقالات بمثابة وسام علي صدر جماعة الإخوان المسلمين.
وبعد ذلك لابد لنا من تفحص طبيعة المعادلات السياسية الدقيقة والصارمة التي تحكم العمل السياسي في ظل نظام الحكم الحالي منذ عقود حتي نعرف موقع هذه الاعتقالات منها ونعرف موضع الإخوان المسلمين ومواقفهم في هذه المعادلات. لقد نجحت الديكتاتورية القائمة في مصر منذ الاحتلال البريطاني 1882م في ترسيخ توازن قُوَيَ مجتمعي قائم علي وجود نسبة محدودة من المتدينين (الذين بات يطلق علي نشطائهم اسم «الإسلاميون») لا تملك القيام بتأثير فعال في مجريات الأمور العامة مهما كان نشاطها وارتفاع صوتها، مع وجود نخبة محدودة من العلمانيين المرتبطين بقوي غربية (صورة الاستعمار الجديد) ويملكون مقاليد السلطة والقوة، مع وجود كتل أخري من القوميين والليبراليين والماركسيين كلها تعارض الحكم لكنها معزولة لسبب أو لآخر وبدعم مباشر من النظام لهذا العزل عن أمرين:
الأول: الإمساك بزمام القوة السياسية في الدولة.
والأمر الثاني: إمكانيات تعبئة وتنظيم عامة الجماهير في البلاد.
أما بقية المجتمع فقد حافظ نظام الحكم علي جعله كتلة صامتة وسلبية إزاء الشئون العامة خاصة شئون الحكم والسياسة.
و لقد أقام النظام الحاكم عدة توازنات أخري داخل كل كيان أو تكتل سياسي فالإسلاميون بين جماعاتهم المختلفة توازن، فهناك توازن بين السلفيين والإخوان وبعضهما البعض وبين الاثنين من جهة وبين الجهاديين من جهة أخري توازن آخر وهناك توازن بين هؤلاء جميعا من جهة وبين جماعات التكفيريين، والشيء نفسه نجده داخل القوي السياسية العلمانية المعارضة فهناك توازن بين فصائل الناصريين والقوميين المتعددة والمختلفة وجميعهم من جهة يحكمهم توازن ما مع الماركسيين بجميع مجموعاتهم والكل يتوازن بشكل أو بآخر مع المعارضة الليبرالية وجميع المعارضة غير الإسلامية يحكمها توازن مع كل الإسلاميين....... وهكذا سلسلة لا تكاد تنتهي من التوازنات يأكل بعضها بعضا لصالح النظام الحاكم، إذ لا يمسك بمفاتيح هذه السلسلة من التوازنات غير النظام الحاكم وأجهزته الأمنية والسياسية وحدها، وكلما لاح في الأفق نذير اختلال لهذا التوازن فإن قوي الحكم الداخلية وكذلك القوي الخارجية المساندة لنظام الحكم والساهرة علي سلامة هذا التوازن تقوم بإعادة التوازن إلي سابق عهده بالحيلة حينا وبالقوة والقمع في أغلب الأحيان، مع ملاحظة أن هذا القمع قد يتستر بغطاء من القوانين والقرارات الرسمية.
وهناك عملية سياسية أخري تستخدم ورقة وجود هذه القوي المختلفة في معادلات اللعبة السياسية الدولية والإقليمية، حيث يستخدم النظام وجود الإسلاميين السياسي والدعوي للضغط علي الغرب لكسب تأييد الأخير المطلق للنظام الحاكم تحت تهديد أن البديل هم الإسلاميون، وكذلك التذرع بالوجود القوي للإسلاميين بالشارع السياسي المصري لرفض العديد من الإملاءات الغربية في مجالات كبعض الحقوق الاجتماعية والاقتصادية المخالفة لثوابت المجتمع الشرقي أو الإسلامي، ومن هنا فالنسبة التي حصل عليها الإخوان المسلمون في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة لم تكن مفاجأة للنظام بل مقصودة لتحقيق أهداف عديدة، ونفس الشيء بالنسبة لوجود المعارضة الليبرالية أو القومية أو اليسارية فهي موظفة من قبل النظام لمخاطبة الغرب بأن هناك حريات وممارسات ديمقراطية وتقدما مطردًا في الإصلاح السياسي.
الإخوان المسلمون في مصر طوال القرن الأخير تحركوا في أغلب الأوقات في إطار لم يهدد هذا التوازن القائم وهذه المعادلات السياسية المكرسة، فعمل الإخوان المسلمين لم ينجح في اختراق المنظومة المسيطرة علي مقدرات القوة السياسية في البلاد اللهم إلا في حالات نادرة وحتي في الحالات النادرة التي نجح الإخوان المسلمون في ذلك فإنهم لم يستعملوا هذه القوة السياسية بالشكل المناسب، حتي أطلق البعض علي جماعة الإخوان المسلمين جماعة الفرص الضائعة.
وكذلك فجماعة الإخوان المسلمين لم تنجح في تحقيق اختراق واسع وفعال للكتلة الصامتة من أغلبية الشعب، وربما كاد هذا الاختراق يحدث مرة واحدة في تاريخنا المعاصر في نهاية السبعينيات من القرن الميلادي الماضي بفعل الحركة الدعوية التي قامت بها كل من «جماعة التبليغ والدعوة» ومجموعات إسلامية عديدة استخدمت التكتيكات الدعوية لـ «جماعة التبليغ والدعوة»، لكن سرعان ما أدت أحداث صدام الجهاديين مع النظام الحاكم بجانب عوامل عديدة إلي ترسيخ سياسات حكومية تقيد حركة الدعوة بصفة عامة وتمنع هذه التكتيكات بصفة خاصة، وذلك كله في إطار استراتيجية حكومية ضد الحركة الإسلامية مستمرة بشكل واضح منذ عام 1986 وحتي الآن وهي أشبه ما تكون بمزيج من استراتيجيتي «الاحتواء» و«الردع المرن» المعروفتين في الصراع الدولي.
وبسبب التزام الإخوان المسلمين اختيارا أو إكراها بمقتضيات هذه المعادلات السياسية التي رسخها النظام الحاكم فإنهم لا يستطيعون دفع صراعهم مع الحكم إلي أبعد من هذه المعادلات بإنشاء معادلات جديدة أو الإخلال بتوازن القُوَي القائم، وهذه الحالة من التفكير السياسي والاستراتيجي لدي الإخوان المسلمين دفعت البعض لاعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة كبيرة ذات عقل صغير رغم ما في هذا التعبير من مبالغة.
و مما لا شك فيه أيضا أن هذا الالتزام الإخواني بالمعادلات السياسية التي كرسها ويكرسها النظام لا يأتي فقط خوفا من زيادة جرعة البطش من قبل النظام بقدر ما هو تعبير عن طبيعة التفكير السياسي والاستراتيجي داخل المطبخ السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، فالعقليات التي تحكم هؤلاء القادة اعتادت عدم الاكتراث بآثار القمع الحكومي، فقد اعتادوا إدارة الجماعة تحت القصف القمعي للنظام بكل درجات هذا القصف الذي شهدوه منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، كما أن القسوة التي تم قمع جماعة الإخوان المسلمين بها منذ ثورة يوليو 1952 وحتي عهد الرئيس السادات خلقت لدي قادة الجماعة السياسيين حذرا ربما نراه زائدا علي الحد المناسب لمثل هذا العمل السياسي الذي يتصدي له الإخوان المسلمون الآن وفي مثل هذه الظروف من الحراك السياسي وفرص التغيير والفشل والتردي الذريع الذي وصل له النظام السياسي المصري، فهل مازالت عقول قادة جماعة الإخوان المسلمين مسجونة في التجربة المريرة للجماعة مع عبدالناصر أم أن الجماعة تعايشت مع القصف الحكومي بقدر تعايشها مع وجود نظام الحكم نفسه واستمراره؟
هذا السؤال يحتاج إجابة واضحة من قيادة الإخوان المسلمين ليس بالقول ولكن بالفعل، فلا أحد يطالبهم بما وراء الممكن لكن الجميع يطالبونهم باستغلال أقصي ما يمكن لا سيما وأن السياسة هي فن الممكن.
و تبقي أسئلة تتعلق بتأثير هذه الاعتقالات علي جماعة الإخوان المسلمين من قبيل هل يتفلت الأعضاء تاركين كيان الإخوان المسلمين بسبب القمع؟ ومن قبيل هل تتمكن الجماعة من القيام بنفس أدوارها التي كانت تقوم بها قبل الاعتقالات؟ وهل تتصاعد الاعتقالات أم تنحسر؟
في الواقع ربما يتفلت القليل من أعضاء الجماعة الحديثي عهد بها ولكن الجماعة سرعان ما ستعوض هذا التفلت بمزيد من الأعضاء الجدد الأكثر التزاما وانضباطا تنظيميا.
وستظل جماعة الإخوان المسلمين تقوم بأدوارها المحصورة في المعادلات السياسية الراسخة والمكرسة في مصر منذ عقود.
أما تصاعد الاعتقالات أو انحسارها فهو محصور في القرار الحكومي الملتزم بحفظ توازن القُوَي القائم علي ألا تخرج كل قوة سياسية في مصر عن الدور المرسوم لها بعناية داخل أروقة الحكم المصري.