تقول الكاتبة سكينة فؤاد: الآن فقط وعندما أصبحت أم فهمتك أكثر وفهمت دوافعك للحرص والقلق علىّ، كانت أمى كحال سيدات المدن الساحلية امرأة قوية شديدة الصلابة والاستقلالية ورغم كونها ربة منزل إلا أنها لم تكن ضيقة الأفق ولم يكن من السهل هزيمتها.. كانت شديدة الحرص على مستقبلى ومن فرط قوتها تخيلت أن لها الحق فى تحقيق حلمها فى،
ولهذا تمنت بشدة التحاقى بكليات القمة كالطب والهندسة، خاصة أننى كنت من المتفوقين، وكانت خائفة علىّ من حلمى ولكنى ورثت عنها الاعتزاز بالنفس وتمسكت باختيارى.. لتغضب بشدة عندما التحقت بالقسم الأدبى، وليهدأ هذا الغضب عندما بدأت تلاحظ ثمرة اختيارى فى الصحف والمؤلفات.
وتكمل قائلة: كنت ابنة مطيعة ومحبة لأمى ولم تجد أى معاناة فى تربيتى.. لهذا لو اعتذرت لها - رحمها الله - فسوف أعتذر عن أن عجلة الحياة جعلتنى أنشغل عنها كثيرا لأبنى هذا الكائن الذى تمنيت كثيرا أن تفخر به.. فالعمل فى بلاط صاحبة الجلالة لمن لا يملك سوى إخلاصه وقلمه يتطلب الكثير، فكنت أتمنى لو أعطيتها من الاهتمام والاقتراب أكثر مما أخذته منى مفرمة الحياة، أعتذر لها عن ابتعادى الاضطرارى، فكم أشتاق لجلسات الصخب العقلى التى جمعتنا معا وكم كنت أسعد فيها بمناوشة هذا العقل الواعى.
يقول القاص سعيد الكفراوى: هناك الكثير الذى يمكن أن أعتذر لأمى - رحمها الله - عنه، وأكثره أمور بدرت منى أثناء طفولتى، فقد رزقت بى أمى بعد وفاة ١١ من أطفالها، ولهذا كانت تحبنى وتخاف علىّ بشدة، ولم تكن لتعاقبنى على ما أفعل من أخطاء كانت تضعها فى مواقف حرجة للدفاع عنى وحمايتى من عقاب أبى، خاصة أن علاقتى به كانت متوترة إلى حد ما، وأشهر هذه المواقف كان بسبب السينما، والتى لعنت بحبها منذ كنت فى التاسعة من عمرى..
وهو ما كان يدفعنى للذهاب بانتظام من قريتى الصغيرة «كفر حجازى» إلى مدينة المحلة لأشاهد المعروض فى صالات السينما هناك، وكنت أصر على حضور الثلاث حفلات المعروضة، فأعود لمنزلى فى وقت متأخر من الليل بعدما يكون أبى قد أغلق باب المنزل.. هنا أتذكر جيدا حيرة والدتى وهى واقفة فى قلق وخوف خلف الباب، تحاول أن تدخلنى دون أن يشعر أبى، وعندما كانت تفشل..
كنت أذهب للمبيت فى المسجد لأجدها فى اليوم التالى تدخلنى فى الصباح الباكر للمنزل قبل أن يستيقظ أبى وهى تعاتبنى فى رقة ولين على أمل ألا أكررها ثانية، ولكنى كنت أكررها باستمرار.. كما أعتذر لها أيضا عن «كذبى عليها فى مسألة المذاكرة، فقد كنت عاشقا للقراءة منذ الصغر، وكلما سألتنى أمى عن الكتاب الذى أقرأه كنت أخبرها بأنى أذاكر، وعندما كانت تشك فى شكل الكتاب، أؤكد لها أنه كتاب دراسى.
الدكتور أحمد فنديس، رئيس قسم الجغرافيا بجامعة القاهرة، يقول: أبعث لأمى اعتذارا فى العالم الآخر، عن زياراتى المتباعدة لها، كانت تعيش بمدينة بورسعيد، وأنا بالمنيا بسبب تعيينى معيداً هناك، وتمنيت أن أكون بجانبها دائما كما كانت هى معى طوال عمرها، ولكن عملى منعنى، أيضا ارتكبت فى حقها خطأ عندما تقدمت بالسن ومرضت، زرتها يوما وصادف ذلك شرائى لأول تليفون محمول بحياتى، طلبته منى ورفضت أن أمنحها إياه،
واعتذرت لها بلطف أنه يسبب أمراضا خطيرة بالمخ والسمع وربما يزيد حالتها سوءا، ولكننى بينى ونفسى كنت أعرف أنها حجج واهية لأحتفظ به، الآن كلما أمسك بتليفون محمول أتذكرها وأتمنى لو أعطيتها إياه، حتى لو كان سيضرها فعلا، فضرر مادى أهون من ضرر روحى، عادة ما قابلت أخطائى بسماح مخجل وحب ظاهر، كنت ابنها الأكبر ولى معزة خاصة فى قلبها، حتى لم تكن تعاتبنى، كانت تكتفى بالصمت والعفو، وأوجه نداء لكل الأبناء، الهدايا لا تسعد الأمهات ما يسعدهن أن تبادر لإرضائهن قبل أن يمر الأوان ولا يجدى الاعتذار.
أستاذ العلوم السياسية وعضو المجلس المصرى للشؤون الخارجية الدكتورة أميرة الشنوانى تقول: عندما كنت صغيرة أدخلتنى أسرتى مدرسة أمريكية فى القسم الداخلى، وهى نفسها التى تعلمت فيها أمى، لم أحب تلك المدرسة لأنها أبعدتنى عن والدتى ووالدى وإخوتى، كنت أخرج منها فقط فى عطلات نهاية الأسبوع لأمضى الإجازة فى بيتنا، حاولت أمى إقناعى بأن ذلك فى مصلحتى، فالقسم الخارجى للمدرسة يقدم العلم فقط،
بينما الداخلى يعلمنى كل شىء تقريبا فى الحياة، لم أقتنع بكلامها، وغضبت دائما من مدرستى وافتقادى لها، وعندما كبرت تأكدت من أنها وأبى كانا على حق، بفضل القسم الداخلى أصبحت سيدة مجتمع من الطراز الأول، وأدين بذلك لوالدتى ووالدى، رحمهما الله، وأعتذر لأمى لأننى لم أفهم وجهة نظرها وأقول لها فى عيد الأم «وحشتينى يا أمى».