ثلاثة مشاهد استفزازية صادفتها الأسبوع المنصرم علي شاشات الفضائيات، أولها الخميس الماضي حين عرضت إحدي القنوات في سهرتها حفل افتتاح فندق شهير ينتمي لسلسلة عالمية علي نيل القاهرة.
لم يكن الاستفزاز فاحشاً فقط كون أن مالك الفندق هو ذاته صاحب المحطة الفضائية بما يعنيه ذلك من انتهاكه لحقوق الناس عبر الدعاية لفندقه دون التنويه بأن ذلك إعلان مدفوع الأجر، بل إن الاستفزاز الحقيقي تمثل في طريقة عرض وتقديم الحفل، حيث حرص مقدمو السهرة علي الحديث مع ضيوفهم باللغتين الإنجليزية والإسبانية في محاولة استعراضية بائسة وكأننا في بلد آخر يتحدث لغة مختلفة وليس افتتاحا لفندق علي أرض مصرية يفتخر بأنه إضافة مؤثرة وفعالة لوجه القاهرة المشرق المتأنق، ولولا حصوة الملح في عيونهم لما كانت هناك ترجمة مكتوبة أسفل الشاشة.
لست ضد الاحتفال، فمن حق كل شخص أن يحتفل متي شاء بالطريقة التي يرتضيها لنفسه وتناسب ذوقه، لكنك عندما تقرر أن تقتحم بيوت الناس بعرض هذا الاحتفال يجب عليك أن تراعي مشاعر الجماهير وظروفهم فتمتنع عن التعالي عليهم أو تحقير حياتهم وإلغاء لغتهم التي يفهمونها عبر طرح أسئلة من قبيل: ما ماركة الفستان الذي ترتديه الليلة؟، فتكون الإجابة من مصريات متأنقات: كابانا أو فرساتشي أو شانيل.. بما يحمله ذلك في واقع ومخيلة الناس من مبالغ مالية تفوق دخولهم ومدخراتهم عشرات المرات، أو عندما يتحدث مدير قسم الأغذية والمشروبات في الفندق بفخر واعتزاز عن تقديم 132 ألف صنف من المأكولات والحلويات والمشهيات بما يعني أن كل ضيف من قائمة الحضور بوسعه تذوق أكثر من ألفي صنف في ليلة واحدة.. وهو الاستفزاز بعينه ورأسه لكل أسرة ميسورة الحال أو حتي غنية توفر لأبنائها أصنافاً محددة وتقليدية، ناهيك عما يمكن أن يصيب الفقراء المحيطين بالفندق الجديد من كل جانب.
المشهد الثاني وبرغم كونه شائعاً ومتكرراً، فإنه تزايد بشكل لافت مؤخراً حيث تزايدت أعداد المعلقين الرياضيين غير الأكفاء علي شاشات الفضائيات المصرية والعربية والذين تخلوا عن أصول التعليق الموضوعي ولا يجتهدون لمقارنة أنفسهم بغيرهم في الدول الأخري إذ تجدهم يسيئون لعامة المصريين باستخدامهم ألفاظاً سوقية تنحدر بالذوق العام وتهبط باللغة والثقافة إلي مستوي شوارعي لا يليق، كما أنهم - مع استثناءات محدودة - يمجدون فرقاً ومنتخبات علي حساب فرق ومنتخبات أخري، وكأن واجب ودور المعلق الرياضي هو الدفاع عن انتمائه الكروي أو الوطني دون أي اعتبار لمشاهدي الطرف الآخر في المباراة.
ثم إنهم يحاولون شحذ همم الناس وتزييف الحقائق دون رادع، ففي مباراة مصر - إنجلترا قبل أيام واصل المعلق وصف الحضري بأنه السد العالي رغم الأهداف الثلاثة التي اخترقت شباكه، كما وصف أحمد حسن بـ «الصقر» في كل كرة يلمسها فما تلبث الكرة أن تجد طريقها إلي الإنجليز بسرعة وسهولة، ناهيك عن امتداحه لعماد متعب وأبوتريكة دون مبرر ورغم عدم إضافتهما للمباراة أي شيء علي الإطلاق.
في معظم المباريات التي يعلق عليها محترفون، تستمتع بالتعليق الراقي الذي يمزج المعلومة بحركة المباراة، فضلا عن الحرص علي التوازن بين طرفي المعركة وعدم التقليل من شأن الخصم أو استفزاز المشاهدين بتعليقات ساخرة أو تهكمات مفضوحة.
المشهد الثالث المستفز هذا الأسبوع تمثل في انطلاق قناة فضائية مصرية جديدة تلوح بسلسلة قنوات متنوعة ومحلية وهو ما ينذر بطوفان جديد للفضائيات بحيث يصبح لدينا بعد خمس سنوات أو أقل فضائية لكل مدينة ولكل مركز، وفضائية لكل رياضة ولكل مهنة، وفضائية لكل مجموعة عرقية ولكل طائفة دينية ولكل فئة عمرية.
وجه الاستفزاز هنا هو من أين يجد مؤسسو هذه القنوات التمويل اللازم لكل هذه الفضائيات؟ ولماذا يتجنب هؤلاء الشفافية في تعاملهم مع الدولة والأجهزة الرقابية والناس؟
والسؤال الأهم هو: كيف سيسترد هؤلاء الممولون نفقاتهم التي تعد بالملايين في ظل سوق إعلانية ضعيفة تتوزع علي عشرات من وسائل الإعلام.. أم أنهم في الواقع رجال أعمال يوظفون أموالهم مقابل التمتع بنفوذ أكبر داخل المجتمع عبر استخدام سلاح الإعلام لمواجهة خصوم وتوجيه الناس نحو مناح بعينها بصرف النظر عن المعايير الأخلاقية وأصول المهنة التي تنحدر بمرور الأيام مع انطلاق مزيد من الفضائيات في ظل صعوبة مراقبة كل هذا الحشد الإعلامي وبالتالي عدم القدرة علي محاسبة الخارجين علي القانون والمنفلتين بوجه عام؟!.
قبل أسابيع قليلة شاهدنا كيف قاد معلقون رياضيون المجتمع والوطن كله إلي حافة الهاوية، ولولا صراخ المثقفين والعقلاء لانجرفنا إلي مزيد من الزلل، ولهذا تكمن الخطورة مستقبلا في احتمالات تكرار هذا الانفلات بسبب عدم وجود جهاز تنظيمي مستقل لا يخضع للدولة يراقب ويتابع عن كثب هذه المحطات الفضائية وما يمكن أن تحمله رسالتها من شطط وزلل ضد فئة أو طائفة أو ديانة أو عرق.
لست بالطبع مع تقييد حرية الإعلام أو خنق الآراء والاجتهادات فهذا من شيم النظم القمعية والقيادات التسلطية التي عانينا منها طويلا في عالمنا العربي وقادتنا إلي ما نحن فيه من تدهور، لكنني أقصد بـ «الجهاز التنظيمي المستقل» أن يتكون من ممثلين عن وسائل الإعلام والفضائيات المختلفة وفقهاء قانونيين مشهود لهم بالكفاءة والاستقلال عن أهواء الدولة فضلا عن ممثلين متساوين من أجهزة الدولة والأحزاب السياسية ومنظمات حقوق الإنسان المعنية بالإعلام وحرياته بحيث تنصهر كل الآراء في بوتقة واحدة تصب في صالح المجتمع وتحميه من كل ضرر.
قبل أيام قليلة أصدرت إحدي المحاكم حكمها بوقف ثلاثة برامج للمذيع اللامع أحمد شوبير علي قناة «الحياة»، وبصرف النظر عما إذا كان ذلك صوابا أم خطأ إلا أنه من غير اللائق أن تتحدي إدارة القناة الحكم بأن تطلق قناة رياضية خالصة جديدة يترأسها شوبير حتي ولو كان ذلك مخططا من قبل، لأن الرسالة هنا تقول دون لبس: «ولا يهمنا.. اخبطوا راسكم في أقرب حائط».. والخوف هنا أن يصبح هذا المسلك هو نموذج بسيط مما سنشاهده في السنوات المقبلة.